اختلاف حيثيات
تجهمت، لم يرق لها هذا الحوار، أنهته على الفور بإن وقفت، ثم استدارت وتخطتهم جميعًا لتذهب باتجاه سيارتها.
إلى أين تذهب، تذهب حيث تطمئن، سيارتها الجميلة، مسجلها القديم، وأغنياتها المعتادة، تحب هذا المزيج من الأغاني الصاخبة التي تملأها فجأة بالنشاط بعد انكسار وخذلان، أو تلك الأغاني الرائقة ذات النمط الهادئ الحزين المستكين، التي تطلق العنان للدموع، الكثير منها.
حسنًا، المشكلة كانت ولا زالت في ذلك الغبي المتربع على اليمين منها، نعم، فعلى العكس من البشرية جمعاء، خلق قلبها على اليمين وليس على اليسار، ولكنه يحمل ذات المشاكل الغبية المرهونة بصاحبه اليساري، فهو يحب، وينبض، ويجهش بالبكاء، وهذه هي المشكلة!
وقف هو كالأبله في محاولة لاستيعاب ما تقوله، لكن كلماتها كانت تومض كالبرق وتهدر كالرعد، لم يعجبها تصرفه، فانهالت عليه بوابل من الكلام، كيف لا، وقد استفز كبريائها، هل يعقل بإن يطلب منها، بل يأمرها بإن تتوقف عن الدراسة! كيف ذلك؟ هل درجة البكالوريوس هي النهاية؟ لقد علم منذ اللحظة الأولى لهما معًا، بإنها شابة يانعة، ذات طموح دراسي عالِ، لن تستكين حتى تنال درجة الدكتوراة، فكيف له الآن وبعد انقضاء هذه المدة الطويلة معًا، أن يخبرها بإن درجة البكالوريوس كافية، وعليها أن تفكر الآن كما يفكر هو؛ بالاستقرار وإنشاء عائلة!
لم تعترض، لطالما أحبت الأطفال، والاستقرار، لكن ما شأن ذلك في مسيرتها العلمية، قالت مرارًا وتكرارًا بإنها قادرة على الموازنة بين الأمرين، وضربت له الأمثلة بالعديد من حولهم، إلا أنه آبى أن يقتنع، مؤكدًا لها أن وجودهما على هذه الأرض، لا بل ووجود الجميع، بغية الإعمار والخلافة فقط، والدرجة العلمية التي وصلت لها، كافية لبدء دور الخلافة، وإنشاء الأمم.
حوار طويل، تلاه جدال عنيف، انتهى بانسحاب جميع الأطراف، دون وضع نقطة لنهاية السطر، لعل وعسى، أن يراجع كل طرف منظوره، ويجد الحل لتجاوز المحنة وإكمال ما كان، وما سيكون.
اجتمع الأصدقاء، كانت هي حاضرة، وكان هو كذلك، بدأ الحوار بالتهاني لها، على تخرجها من الجامعة، ليكون الحوار التالي حول ماهية التخصص المختار، لاستكمال درجة الماجستير به، وذلك كون الأصدقاء، حتى الأصدقاء، يعلمون جيدًا؛ بإنها تنوي ذلك منذ زمن، وهنا استطرد هو الحديث قائلًا؛ بأنهما الآن مستعدان لإنشاء عائلة!
وهنا، كان انسحابها نحو سيارتها للرحيل، اعتراضًا منها على كلامه، ولكن بصمت، رغم ملاحظة الجميع ذلك! تبعها بخطىً عجولة، سحبها من ذراعها، وقال بنبرة حازمة، إذًا؛ لا زلت متمسكة برأيك وموقفك! هل حقًا ترين أن المرحلة الدراسية القادمة، على ضخامتها، ستستطيعين الموازنة بينها وبين المنزل والأولاد، هل حقًا ذلك؟ كانت متأكدة من ذلك، لكنها لم تعد واثقة من أنها يفهم شخصها وطموحها، هل تستطيع هي الوثوق به بإن يكون عونًا لها في السراء والضراء؟ أم سيتهكم قائلًا بأنه أخبرها بعدم قدرتها على ذلك، وأنها المسؤولة الوحيدة عن سوء الأحوال إن سائت، ولن يبادر حتى بالترفق بها أو مساعدتها!
هو كذلك، أحس بأنه تشارك معها الحب، اللهفة، والغرام، ولكن، لم يتشارك معها الحياة، لم يفهمها ولم تفهمه، لا يمكن أن يكونا معًا، لكل شخصٍ منهم مساعي مختلفة في الحياة، الآن أدرك، والآن هي أدركت.
نزعت يده عن ذراعها، قالت له بصمت بإنهما لا يمكن أن يكملا ما قد بدأ، ولا بد له من أن ينتهي الآن، لإن هنالك حياة مزدهرة، تنتظرها، وهو كذلك، ورغم توقها لإنشاء عائلة، إلا أن الأهم من ذلك، السند، والدعم الحقيقي لإنشاء هذه العائلة، والسعي نحو الطموح، في آن واحد، لم تكن تطمح لأن تكون عادية، رغم عادية السعي والاجتهاد، وهو لم يكن يحلم سوى بمنزل هادئ، وزوجة تنتظره، وأولاد يلتفون حوله لدى مجيئه.
أغبياء، الحلم ذاته، الحيثيات هي التي اختلفت فقط، ولكن، لم يكن مقدرًا لهما أن يكونا معًا.